المركز الإعلامي

#دارة_الملك_عبدالعزيز مؤسسة متخصصة في خدمة تاريخ وجغرافية وآداب وتراث المملكة العربية السعودية والجزيرة العربية والعالم العربي تأسست عام ١٣٩٢هـ/١٩٧٢م

الحج قبل العهد السعودي .. الذاهب مفقود و العائد مولود

الذاهب مفقود
كان الحجاج لا يمشون إلا في جماعة لسوء أحوال الأمن واضطرابه ،  وعندما كان الرجل ينوي الحج كان أقرباؤه وأصدقاؤه يودعونه وداع الفراق، وكانوا يقولون "الذاهب للحج مفقود والعائد منه مولود"،  فالحاج تجتمع عليه المخاطر وتتناوشه من كل جانب ، سواء كان قطاع الطرق أو الكوارث الطبيعية مثل السيول والأمطار أو شح المياه أو الحيوانات المفترسة التي تقابله في رحلته،  وفوق كل ذلك الإتاوات التي تدفعها القوافل للسماح لهم بالمرور

فتن وقتال في مكة


يؤكد محمد طاهر الكردي في كتابه «التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم»، اشتعال عدد من الفتن و القتال داخل حدود الحرم خلال موسم الحج ، مشيرا إلى أنه و في شهر الحج من عام 1326 هـ اشتعلت فتنة بين الصفا و باب الوداع ، و ترامى الطرفان بالرصاص ، مما نتج عنها قتل عدة أنفار من العسكر و المدنيين

ويعزز إبراهيم رفعت صاحب كتاب «مرآة الحرمين» ما ذهب إليه محمد طاهر الكردي عن أحوال الأمن في مكة المكرمة في مطلع القرن العشرين الميلادي ، مؤكدا أن من كان يريد زيارة جبل النور، و هو جبل قريب من المسجد الحرام يوجد به غار حراء ،  أن يحمل معه الماء الكافي ، و أن يكون الحجاج على شكل جماعات يحملون السلاح حتى يدافعوا عن أنفسهم من اللصوص الذين يتربصون بهم لسلب أمتعتهم.
و يقول إبراهيم رفعت أيضاً إن سلطات ذلك الزمان التابعة للدولة العثمانية  كانت تقف موقف المتفرج من هذه الفوضى وإيذاء الناس و الحجاج حتى إنه حدث قتال في مكة  ليلة وصلنا من منى إلى مكة بين الأعراب أمام ديوان الحكومة دون أن يبالوا بها، وقد قتل في تلك المعركة ثمانية أشخاص .

قطاع طرق وسيول ووحوش


 و لم تكن مخاطر الحج وقفاً على اللصوص و قطاع الطرق فحسب ، بل كانت الطرق التي يسلكها الحجاج محفوفة بخطر السيول والأمطار ، سواء من داخل الجزيرة العربية أو خارجها ، حتى إن بعض حجاج الكويت يفضلون السفر بحراً ، لانعدام الأمن في الطرق البرية في الجزيرة العربية ، و رغم ما في السفر عن طريق البحر من مشقة ، حتى إنهم كانوا يسافرون إلى بومبي ومنها إلى جدة مروراً بالبحرين و دبي و بندر عباس و مسقط و كراتشي، ثم تبحر السفينة من بومبي إلى عمان ثم المكلا و عدن و بربرة حتى تصل إلى جدة، و كانوا يتجشمون هذه المشقة و لمدة حوالي الشهر تجنباً لمخاطر السفر بالبر.  
و مثل الحجيج من خارج الجزيرة العربية، كان كذلك من ينوي الحج من أهل الجزيرة يعانون أشد المعاناة عند توجههم للحج ، فكانوا يغادرون مناطقهم سواء من الجنوب أو الشرق عقب عيد الفطر في رحلة تستغرق شهرين على الجمال ومشياً على الأقدام، و كان بعضهم يموت في الطريق قبل الوصول إلى المشاعر بسبب المرض أو لدغ الثعابين، و كانوا يمشون في جماعات خوفاً من قطاع الطرق.

في عهد الأمن والأمان
 
يقول شكيب أرسلان أمير البيان الذي حج في عام 1348 هـ ، إنه ما أن تأسست الدولة السعودية ودخل الملك عبدالعزيز "رحمه الله "مكة المكرمة ، والذي كان همه الأول بسط الأمن و تأمين طرق الحجاج ، حتى عم الأمن والأمان ربوع المملكة العربية السعوية لا سيما منطقة مكة المكرمة والمدينة المنورة وأضاف: «لو لم يكن من مآثر الحكم السعودي سوى هذه الأمنة الشاملة الوارفة الظلال على الأرواح و الأموال التي جعلت صحاري الحجاز و فيافي نجد ، آمن من شوارع الحواضر الأوروبية، لكان ذلك كافياً في استجلاب القلوب واستنطاق الألسن في الثناء عليه».
ويروي شكيب كيف سقطت عباءته من السيارة عندما كان في الطريق الى الطائف فأخذ الناس يمرون فيرون هذه العباءة ملقاة على قارعة الطريق فلا يتجرأ أحد أن يلمسها، بل شرعت القوافل تتنكب عن الطريق عمداً حتى لا تمر على العباءة، فوصل خبرها إلى أمير الطائف فأرسل سيارة من الطائف أتت بها، وأخذ بالتحقق عن صاحبها فقيل له: إننا نحن مررنا من هناك وأن الأرجح كونها سقطت من سيارتنا، فجاء الأمير ثاني يوم يزورنا وسألنا: هل فقد لكم شيء من حوائجكم في أثناء مجيئكم من مكة؟ فأهبت برفاقي ليتفقدوا الحوائج فافتقدوها فإذا بالعباءة السوداء مفقودة، وكنا لم ننتبه لفقدانها، فقلنا له: عباءة سوداء إحسائية.
 

الملك عبدالعزيز يؤسس لأمن الحجيج


وفي وصف دال على اهتمام الملك عبدالعزيز "رحمه الله " بسلامة الحجاج يقول شكيب أرسلان: "كانت قوافل الحجاج من جدة إلى مكة المكرمة خيطاً غير منقطع والجمال تتهادى تحت الشقادف، وكثيراً ما تضيق بها السبيل على رحبها، وكان الملك - أيده الله - من شدة إشفاقه على الحاج وعلى الرعية لا يرفع نظره دقيقة عن القوافل والسوابل ولا يفتأ ينبه سائق سيارته بعدم العجلة،  وكل هذا لشدة خوفه أن تمس سيارته شقدفاً أو تؤذي جملاً أو جمالاً، وهكذا شأن الراعي البر الرؤوف برعيته، الذي وجدانه معمور بمعرفة واجباته.
و للدلالة على شيوع الأمن واستتبابه في أرض الحرمين ما جاء في كتاب "مشاهداتي في الحجاز" 1354 هـ، لمؤلفه عباس متولي الذي كان أستاذاً للشريعة في جامعة القاهرة) ، والذي يصف فيه ما لمسه من توفر الأمن في طرق الحجاج ، فقد تعطلت بهم السيارة في الطريق من مكة المكرمة الى المدينة المنورة ويقول: «جاء بعض الأعراب يطلبون إحساناً، فتقدم إلي أحدهم يطلب مني صدقة فأعطيت غيره متظاهراً بالغنى والثراء، فقال أعطني يا حاج، فقلت خذ ما تريد من جيبي! فقال: حرام عليك وما جنيت ؟ أتريد قطع يدي لا يا بوي لا أطلب شيئاً، فقلت : إننا في عزلة عنهم (يقصد بذلك الحكومة) ، فازداد الرجل إصراراً. فدهشت لهذا ورددت قول سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه (إن الله ليزع بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن) وأعطيته ما تيسر، ولقد مكثنا في مكاننا إلى ساعة متأخرة من الليل ، أحضروا أثناءها الماء واللبن وأكرموا وفادتنا من غير أن يتعرض أحد منهم لنا بسوء». ويقول: "استتباب الأمن بهذا الشكل لم يوجد في الحجاز إلا بعد تنفيذ شريعة الله، وإقامة حدوده".
وفي كتابه (رحلة إلى الحجاز) يروي الأديب إبراهيم المازني حوادث ذات دلالة على استبباب الأمن وإقراره على يد الملك عبدالعزيز فيقول: "والطريق إلى مكة طريقان ؛ واحد للسيارات والآخر للجمال والمشاة ، وكانت الجمال تسير في قوافل ، و هي تحمل بضائع شتى في الصناديق و الأكياس والغرائر، و ليس معها سوى طفل واحد هو كل حرس هذه القافلة".

عصا ترد الناس


ثم يروي بعدها بأسلوبه الرشيق كيف فقد عصاه في الطريق من جدة إلى مكة، وبينما هم يستريحون في الشميسي، فوجئ بمسؤول الشرطة يسأل عما إذا كان لأحد من الوفد عصا، فأجابه المازني أنه صاحبها، فقال له لقد وجدت عصا في الطريق قرب الرغامة فقطعت على الناس السبيل حتى يجدوا صاحبها.
 ويعلق المازني على ذلك "سأتذكر دائماً بأن عصاي قطعت الطريق بين جدة ومكة ساعة كاملة لا تنقص دقيقة، بل ولا ثانية، وردت الناس من الجانبين ووقفتهم صفين من الناحيتين، متقابلين على أقدامهم، إلا من شاء أن يضرب في طريق آخر".
ويقول الأديب إبراهيم المازني للتدليل على عدم مبالغته فيما رواه عن عصاه وشيوع الأمن :"كنا في الطريق إذا بلغنا محطة واحتاج السائق إلى ماء يبرد به جوف السيارة التي تغلي، نصيح بأحد الواقفين: هات ماء، فلا يتزحزح ولا يدنو منا، بل يقول وهو واقف مكانه "تفضل" فينزل السائق و يجيء منه بما يريد ، وعندما سألنا عن هذه الجفوة ، قيل لنا هو الحذر من أن يدنو الغريب من السيارة فيتفق لسوء الحظ أن يضيع شيء من الأدوات أو مما تحمل السيارة فيتهم الرجل بالسرقة، وجزاء السارق قطع اليد، و قد أمن ابن سعود الناس على أرواحهم وأموالهم بذلك، حتى إن الناس يقعون على الشيء في الطريق فلا يقربونه أبداً، حتى يمر شرطي فيحمله و يبحث عن صاحبه، وإذا لم يقعوا على صاحبه نشروا في صحيفة أم القرى إعلاناً تحت عنوان "لقطات".


المصادر:

التاريخ القويم لمكة وبيت الله الكريم – محمد طاهر الكردي
مرآة الحرمين – ابراهيم رفعت باشا
الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج الى أقدس مطاف - الأمير شكيب أرسلان
مشاهداتي في الحجاز – عباس متولي
رحلة إلى الحجاز – إبراهيم عبدالقادر المازني

 

 

مواضيع ذات صلة

الثري الأمريكي الذي نصح الرئيس الأمريكي بالاستفادة من تجربة الملك عبدالعزيز في العلاقات الدولية

تعد المراسلات المتبادلة بين الحكومات الغربية ومواطنيها الزائرين للمملكة العربية السعودية مصدرًا مهمًّا من مصادر التاريخ الوطني لما تحمله من معلومات مستقاة عن قرب وممارسة، خصوصًا تلك التقارير المرسلة من أفراد قابلوا الملك عبدالعزيز -رحمه الله- واطلعوا على أسلوبه في إدارة الحكم في بلاده الناشئة، كما أن تلك المراسلات تعطي الباحث العربي فرصة لمعرفة وجهة نظر غربية مستقلة عن الأوضاع السياسية والاجتماعية...

Readmore

في مؤتمر عربي قبل 71 عام: الجراد وباء خطير

في مؤتمر عربي عن الجراد الصحراوي قبل (71) عامًا  المملكة العربية السعودية تؤكد جاهزيتها وتدعو إلى الوحدة الدولية جاء في مؤتمر عن مكافحة الجراد الصحراوي عقد في العاصمة الأردنية قبل أكثر من (71) عامًا شاركت فيه المملكة العربية السعودية، على لسان وزارة الزراعة الأردنية في العام نفسه: «راقبت الوزارة حركات الجراد الصحراوي منذ بدايتها، ولفت نظرها بصورة خاصة ظهوره عند البحر الأحمر في الجنوب الغربي من

Readmore

شاهد.. هذه قائمة طعام ملكي يعود عمرها إلى 63 عامًا

لم يكن تاريخ المطبخ السعودي بالقريب؛ بل كان يحظى بالعديد من الأصناف اللذيذة والمتنوعة التي يعود زمنها إلى أكثر من ٦٣ عامًا.

دارة الملك عبدالعزيز المعروفة بـ"ذاكرة الوطن" تتولى توثيق هذا التاريخ بالتعاون مع هيئة فنون الطهي، وتسعى لحصر سيرة الغذاء؛ حيث كانت قصور الملوك والأمراء والأعيان تمتلك المبادرة في جلب أفكار أطعمة من الخارج ومن أحدث الأطعمة المحلية لأهميتها السياسية.

ونشرت "الدارة" صفحة مستلة من...

Readmore

(الرقمنة: للأبد) شعار يوم الحفظ العالمي ومنهج الدارة

 

يعد الحفظ الرقمي مصدرًا رئيسًا لانتقال البيانات والمعلومات والمعارف في عصرنا الحالي والمستقبل المنظور، ونظرًا لهذه الأهمية البالغة تقام في كل عام احتفالية اليوم العالمي للحفظ الرقمي (2020WDPD) في أول خميس من شهر نوفمبر الذي يصادف هذا العام 1442/3/19هـ / 2020/11/2م، ويشرف عليها تحالف الحفظ الرقمي digital preservation coalition، وكان موضوعه هذا العام (الرقمنة: للأبد)، ويهدف إلى خلق وعي أكبر بالحفظ ...

Readmore

تاريخ تطوّر العملات في الجزيرة العربية من (الطويلة) إلى الريال العربي السعودي

 


بدأ استخدام العملات في التعاملات التجارية وعمليات البيع والشّراء وتبادل السّلع في الجزيرة العربية منذ ما قبل التاريخ، وقبيل العهد السعودي كانت الجزيرة العربية تعيش في اضطراب سياسي شديد منع تشكيل أي وضع سياسي مستقر لمدة قرون من الزمن، وتبع ذلك انهيار اقتصادي تام، بحيث كانت المقايضة هي الوسيلة الأكثر شيوعًا في التعامل التجاري، في ظل انعدام للكيانات السياسية التي تستطيع أن تنشئ نظامًا ماليًا ينظم إن...

Readmore

الأخبار الرئيسية

(الدارة) اطلقت بودكاست "جلسة تاريخية" لاستكشاف أبعاد العراقة الوطنية

 

أعلنت دارة الملك عبدالعزيز عن إطلاق بودكاست جديد بعنوان (جلسة تاريخية)، والذي يأتي في إطار مبادرات الدارة لتعزيز التواصل مع الجمهور، ونشر المعرفة حول التاريخ والثقافة والتراث للمملكة العربية السعودية والجزيرة العربية، واستكشاف جوانب متنوعة من التاريخ والجغرافيا والآثار والعلوم الإنسانية والاجتماعية.

ويتكون البودكاست الذي اطلق يوم أمس السبت الموافق 2 ديسمبر 2023 من سلسلة حلقات تبلغ (24) حلقة، حيث س...

Readmore

إصدار للدارة يستشف المظاهر الحضارية لمدينة جدة من خلال كتب الرحالة الغربيين

 

انطلاقًا من رسالة مركز تاريخ البحر الأحمر وغرب المملكة العربية السعودية التابع لدارة الملك عبدالعزيز، والذي أنشئ لنشر الدراسات والبحوث التي تلقي الضوء على تاريخ مدينة جدة، وتبرز عمقها الحضاري وأهميتها الاقتصادية ونشاطاتها الثقافية، فقد أصدر المركز مؤخرًا كتابًا بعنوان (المظاهر الحضارية لمدينة جدة من خلال كتب الرحالة الغربيين)، من تأليف الدكتورة ثريا بنت أحمد العصيمي.

ويتناول الكتاب مدينة جدة من خل...

Readmore

أمير الشرقية يرعى توقيع مذكرة تعاون بين دارة الملك عبدالعزيز وجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل

رعى صاحب السمو الملكي الأمير سعود بن نايف بن عبدالعزيز أمير المنطقة الشرقية بمكتب سموه في ديوان الإمارة اليوم الأحد توقيع مذكرة تعاون بين دارة الملك عبدالعزيز وجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل، لتبادل الخبرات والكفاءات المتخصصة المتوافرة لديهما في تقديم خدمات مختلفة في المجالات العلمية والمعرفية والثقافية والبحثية ، بحضور معالي أمين عام دارة الملك عبدالعزيز المكلف الدكتور فهد بن عبدالله السماري، ومع...

Readmore

سمو أمير منطقة الجوف يرعى توقيع اتفاقية تعاون بين دارة الملك عبدالعزيز وجامعة الجوف

رعى صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن نواف بن عبدالعزيز آل سعود أمير منطقة الجوف اليوم في مكتب سموه مراسم توقيع اتفاقية تعاون بين كل من دارة الملك عبدالعزيز وجامعة الجوف، انطلاقًا من مسؤولياتهما المشتركة تجاه مجتمع منطقة الجوف، وسعيًا إلى تحقيق التكامل بين الجهتين للرفع من مستوى البرامج والأنشطة التي تخدم توثيق تاريخ المنطقة، وحرصًا من الطرفين على التعاون الإيجابي في هذا الخصوص. جاء ذلك خلال استقبا...

Readmore

إصدار جديد لـ (الدارة) عن المسجد الحرام؛ تاريخه وعمارته

انطلاقًا من رسالة دارة الملك عبدالعزيز المتجسدة في العناية بتاريخ مكة المكرمة، وما تضمه أفياؤها الطاهرة من بقاع شريفة، وفي مقدمتها المسجد الحرام والكعبة المشرفة، فقد قامت مؤخرًا ضمن سلسلة إصدارات موسوعة الحج والحرمين الشريفين، بطباعة ونشر إصدار جديد بعنوان (المسجد الحرام: التاريخ والعمارة)، الذي يؤرخ للمسجد الحرام وعمارته منذ تكوُّن المجتمع المكي قبل الإسلام حتى العصر السعودي الزاهر، حيث تطرق مؤلف...

Readmore