ففي أشيقر ولد ابن عيسى وكان ذلك عام 1270هـ وسط أجواء سياسية مضطربة وحالة من الحروب المتقطعة إلا أنها مستمرة حتى ظهر عهد الدولة السعودية الحديثة وانتشر الأمن والأمان والاستقرار، وفيها ترعرع وتلقى تعليمه الأول، وعقد حلقاته العلمية الأولى لطلابه، ونسخ بخطه الجميل المعروف الكتب القيمة منذ عقده الثاني بما يعادل إعادة الطبع في وقتنا الحاضر، وعمل في بلدته القديمة مع أخويه عبدالعزيز وعبدالرحمن في مزرعة صغيرة لهم مثل عامة الناس من الطبقة الاقتصادية الوسطى.

معالي د. فهد السماري : ابن عيسى هو المؤرخ الأشمل حيث كتب تاريخ المجتمع 
 ندوة شاملة
في كلمة الدارة في الندوة "الأشيقرية" موضوعًا وموضعًا قال معالي الأمين العام المكلف عن دور الدارة تجاه الأعلام البارزين وعن برنامجهم الذي تشرف عليه: «.. وقد أولت دارة الملك عبدالعزيز أعلام المملكة وروادها في المجالات المختلفة عنايتها الفائقة، فحرصت على تحقيق مؤلفاتهم، وطباعة كتبهم، ونشر إصداراتهم، وتجلية إنجازاتهم،
وإبراز مجهوداتهم، وتنظيم الندوات العلمية واللقاءات المعرفية عنهم، عرفانًا بفضلهم ووفاء بحقهم».
 

 
 ومن أجل ذلك انتدبت الدارة أربعة باحثين متخصصين لهذا الغرض تطرقوا إلى حياة العَلم ابن عيسى الاجتماعية والعلمية، وكيفية تدوينه للتاريخ ومنهجه، وعلمه الشرعي وما تبعه من نتاج علمي مؤلف، ومشايخه وأشهر طلابه داخل الجزيرة العربية وخارجها، ورحلاته للاستزادة من العلم في العالم العربي والإسلامي، فقد خصص الدكتور أحمد البسام بحثه المشارك  الحديث عن (الحياة الاجتماعية لابن عيسى) من خلال الوثائق التاريخية وما كتبه ابن عيسى ـ رحمه الله ـ بنفسه عن أسرته والظروف الاقتصادية المحيطة. وقدم الدكتور هشام بن محمد السعيد الورقة العلمية (ابن عيسى والعلوم الشرعية) رصد من خلالها دور ابن عيسى في دعم المكتبة الشرعية  من مؤلفات ومنسوخات كان لها دورها في إثراء الدعوة الإسلامية وسد حاجة التعليم الشرعي، وعن رحلات ابن عيسى في سبيل طلب مزيد من العلم التي شملت شقراء والرياض والمجمعة والأحساء والزبير والعراق والهند والشام  قدم الأستاذ يوسف المهنا بحثه المشارك في الندوة، كما شارك الأستاذ عبدالله بن بسام البسيمي ببحث عن (ابن عيسى: حياته ومؤلفاته) استعرض فيه ترجمة موسعة عن حياة المؤرخ منذ مولده إلى وفاته في عنيزة، وأشهر مشايخه وطلابه وإجازاته العلمية التي حصل عليها والأخرى التي منحها، ومؤلفاته، ومنسوخاته، ومجموعاته القصيرة المتنوعة وفوائده في الطب والفلك والجغرافيا وغيرها، ومكتبته الثرية الخاصة ومصيرها.
 
وفاء وولاء
  وأبانت الندوة في مجمل أوراقها أن اهتمام ابن عيسى انصب على عشيرته آل عيسى، وكان شديد الحرص على صلة أرحامه، فكانوا يتبادلون الأخبار والأحداث للأسرة، ومن ذلك رسالة جوابية وصلت إليه من الشيخ محمد بن علي البيز العيسى في شقراء ذكر له فيها وفيات آل عيسى من الذكور والإناث بسبب وباء الجدري عام 1337هـ، كما كان للمؤرخ العلاّمة مراسلات مع الإمام عبدالرحمن الفيصل تعكس ولاء ووفاء المؤرخ الثاني للدولة السعودية ابن عيسى للإمام ابن فيصل ولأسرة آل سعود، ومراسلات مع  الملك عبدالعزيز الذي كلفه بكتابة تاريخ الدولة السعودية أثناء مروره بالمنطقة ـ طيب الله ثراه ـ  ابتداء مما انتهى إليه قلم المؤرخ عثمان بن بشر، فدوّن وأجاد بالرغم من انعدام الاتصال وبطء المراسلة، وعدم انتشار وسائل الإعلام آنذاك إلا في المدن الكبرى في المملكة، إلا أن طلابه الكثر من المناطق كانوا يزودونه بالأخبار والوقائع.
 
قاضيان في النار
 وعاش المؤرخ ابن عيسى بعد شهرته العلمية حياة مثل حياة العلماء عبر التاريخ فولع بالمعرفة والعلم الأصيل، وصبر وثابر في الحصول عليهما والسفر إليهما، فقد كتب الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن جاسر عن شيخه  ابن عيسى: «كان في بداية طلبه العلم يتجول في البلدان، وإذا ما وجد ما يعجبه من الفوائد نقله بخط يده، وكان لا ينفك في غالب أوقاته من المطالعة، حتى إذا خرج من بيته أخذ معه بعض المجاميع التي هي بخط يده».  وذكر الدكتور السعيد في بحثه الذي أورد ذلك أن من شيوخ المحتفى به الذين أخذ عنهم: «قاضي شقراء الشيخ عبدالله بن علي بن عيسى، وقاضي المجمعة الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى، وقاضي الزبير الشيخ صالح بن حمد المبيّض، وأمير بهوبال الهند الشيخ صديق حسن خان القنّوجي»، وغيرهم. وبالرغم من تتلمذه على أيدي قضاة وقربه منهم إلا أن الشيخ ابن عيسى رفض منصب قاضي عنيزة مرتين عامي 1308 هـ و 1318هـ وذلك تورعًا و«إيثارًا للسلامة» وولعًا بطلب العلم وبتعقب الحدث والمعلومة وتسجيلهما، وتدوين التصحيحات والفوائد والتعليقات على الكتب، ونسخ المخطوطات، فقد كانت لديه مكتبة من أهم المكتبات النجدية مكونة من مخطوطات نفيسة ونوادر شاردة بخطوط مصنفيها، كما أنه كان يشتري بعض المكتبات الخاصة غير الموقوفة وكان يطلع عليها من خلال اشتغاله بفهرسة المكتبات الخاصة، كما أن زواجه من أرملة شيخه عبدالرحمن بن محمد بن مانع نورة بنت إبراهيم البجادي أولى زوجاته الست، كان داعمًا لمكتبته حين وهبته ما ورثته من زوجها الأول من الكتب والمصنفات، فضلاً عما يجود به مشايخه عليه من إهداءات وتزويدات، بل تذكر وثيقة تاريخية تعود إلى عام 1330هـ أن الشيخ المؤرخ ابن عيسى يسأل تلميذه في الكويت العلامة عبدالله بن خلف الدحيان عن سعر كتاب «القاموس المحيط » للفيروزأبادي لغرض شرائه، إلا أن مكتبته تفرقت إمّا إهداء أو بيعًا في سوق عنيزة بعد وفاته فيها، أو هبة، أو وقفًا، وبعض كتبه ذهبت إلى الرياض وتحصل عليها الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ الذي تربطه به علاقة متينة.
 
موسوعيّة مؤرخ
أثرى المؤرخ الشيخ إبراهيم ابن عيسى المكتبة بعدد من المصنفات والمنسوخات منها  ما هو مفقود مأسوف عليه ومنه ما هو ماثل للعيان متاح حصرها الأستاذ عبدالله بن بسام البسيمي، وعدّد أبرزها: كتاب تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد ، وكتاب عقد الدرر فيما وقع في نجد من الحوادث في آخر القرن الثالث عشر وأول الرابع عشر، وكتاب تاريخ نجد وهو امتداد لمصنفه عقد الدرر، ورسالة عن علماء بلدة أشيقر، ونبذة عن بلاد العرب، ونبذة عن أشراف مكة المكرمة، وجزء متوسط في أنساب العرب القحطانيين والعدنانيين، وغيرها كما أن له مجاميع كثيرة قيّد فيها ما يراه وما يسمعه تناولت موضوعات في التاريخ والجغرافيا والأنساب والفلك والطب والتراجم ما يؤكد «موسوعية» ابن عيسى التي اكتسبها من صبره على التعلم ومجالسته العلماء ورحلاته في سبيل ذلك فرحل المحتفى به للاستزادة في العلم  إلى الأحساء أكثر من مرة، وإلى الكويت أكثر من مرة ودرس هناك على يد الشيخ محمد بن سعيد الكويتي، ثم مكة المكرمة لأداء فريضة الحج ومجالسة العلماء وكان في العقد الخامس من عمره، ثم سافر إلى حائل فالهند فالرياض، كما رحل إلى بغداد والبصرة والكوفة وإلى بلاد الشام إلا أن الأستاذ يوسف بن عبدالعزيز المهنا يؤكد أنه لم يجد إشارة في كتب ابن عيسى ورسائله وشعره  ومجموعه المشهور «الكُنّاش» ما يشير إلى رحلة الشام لكنه لا يستبعد أنه سافر لها  لقربها وكثرة القوافل المتجهة لها.
 
لم ولن يعود
انتقل الشيخ المؤرخ إبراهيم بن صالح بن عيسى وأسرته ومكتبته إلى عنيزة عام 1342هـ حيث كان يستأنس بعلاقات أخوية وعلمية بعلماء منها ويعقد الحلقات التعليمية لطلابه هناك، كما كان يحتفظ بعلاقة حميمية مع أميرها عبدالعزيز بن عبدالله السليم تثبتها رسائل متبادلة، وكان انتقاله إليها أمرًا محزنًا لأهل أشيقر وطلابه فكانوا يضمنون رسائل له بدعاء أو طلب أو رجاء بأن «يرده إلى بلده» إلا أنه توفي في العام التالي دون أن يزور مسقط رأسه.
وحسب ركائز برنامج أعلام المملكة العربية السعودية ستطبع الدارة كتابًا خاصًّا عن الندوة لتعميم الفائدة ولتوثيق الاحتفاء بابن عيسى ليضاف إلى كتابين طبعتهما سابقًا لابن عيسى هما «عقد الدرر» و«بعض الحوادث الوقعة في نجد».
 
 
 
 
 
 
 
 
0
المشاركات
0
المشاركات