عبد الحليم رضوي رسم بالألوان، فرسمت له الألوان واقعًا أجمل وأزهى

لم يدر بخلد الصبي اليتيم عبدالحليم بائع الحلوى والبليلة للمعتمرين والحجاج في أزقة بمكة المكرمة أن يكون أيقونة للفن التشكيلي ليس في وطنه فحسب بل في كامل جزيرة العرب، ورائدًا من رواده القلائل في المملكة العربية السعودية، وأنه سيمضي كأكثر الماضين الذاهبين بدون أن يتعدى ذكره حدود حارة أجياد التي ولد فيها، لكن كان للقدر ثم لمكنوناته الداخلية -التي لم تدركها نفسه الغضة حينها- قول آخر.
البداية خريطة
ولد الرضوي في سنة 1358هـ / 1939م وتقدم للدراسة في المدرسة العزيزية بمكة المكرمة متعاليًا على ظروفه المادية التي كادت تمنعه من التعليم، بحيث استطاع أن يجعل من أحواله الصعبة دافعًا ومحركًا للمثابرة نحو التميز والارتقاء، فوضع ميزانًا دقيقًا بين التعليم وكسب لقمة العيش التي كان يجدها في أعمال أهل مكة العادية ومن أهمها الطوافة، وكان لتلك الموازنة أثرها في أن يكون عنصرًا فاعلًا في مدرسته فشارك في التمثيل والغناء والموسيقى لكنه اكتشف نفسه بين الألوان والرِّيَش في مادة الرسم، واستطاع أن ينجز أول عمل فني له وهو عبارة عن خريطة للمملكة العربية السعودية كانت محل إعجاب أساتذته وزملائه، وهنا عثر على الكنز الذي طالما بحث عنه داخل نفسه، فقرر التركيز على ما وهبه له الله من يد رشيقة تتراقص مع أدوات الرسم وزيوته بكل انسيابية ورشاقة، فاندفع بثقة للمشاركة في المسابقات المدرسية فكانت أول مشاركة له في مسابقة جماعية على مستوى المدارس الثانوية السعودية في مدينة الرياض وذلك عام 1378هـ / 1958م وفاز حينها بالمركز الأول ومبلغ (500) ريال بلوحة اسمها (قرية)، ونتيجة لذلك الأداء المبهر أقامت له مدرسته ركنًا لأعماله، وواصل تميزه حتى حصل على الشهادة الثانوية في عام 1960م.


رحلة التخصص
وبما أن النجاح يدفع صاحبة للمزيد قرر الفنان عبدالحليم أن يتخصص في الفن التشكيلي دراسة أكاديمية، وهو ما لم يكن متوفرًا حينها في داخل المملكة، لذا سافر على نفقته إلى إيطاليا عام 1381هـ / 1961م، ليدرس في أكاديمية الفنون الجميلة بروما (الديكور وفنونه)، لكن مازالت المعاناة المادية ترافقه بكل نغصها وضيقها مما أجبره على العمل اليدوي في دهان المنازل في مقابل مبالغ زهيدة استطاع أن ينهي بها سنته الأولى في الأكاديمية بنجاح، ثم جرى ضمه الى البعثة الرسمية فيما بعد، وبالفعل استطاع أن يحصل علي ليسانس فنون الديكور من كلية الفنون بروما في عام 1964م، وفي روما أقام أول معارضه الشخصية، وبهذا يسجل التاريخ أن عبدالحليم بن عبدالعليم رضوي هو أول فنان تشكيلي سعودي مؤهل تأهيلًا أكاديميًا.
وبطموحاته الجمَّة ومؤهَّله النادر عاد رضوي إلى وطنه يحمل قناعة راسخة بأن الفن التشكيلي شكل من أشكال التنمية البشرية والتطور الإنساني، لذا حرص على التعريف به ونشره في أوساط المهتمين والمثقفين والمسؤولين، فأقام أول معرض فني في تاريخ المملكة العربية السعودية في عام 1965م بنادي البحر الأحمر بجدة، وتوجه إلى شركة أرامكو في الظهران التي كلفته برسم عدد من اللوحات عن النفط لوضعها على غلاف أحد مطبوعاتها، كما نظَّم في مقر الشركة معرضًا شخصيًا، وحكَّم كذلك مسابقة في الرسم لطلبة وطالبات المنطقة الشرقية، بعد ذلك انتقل للرياض وعمل في التدريس لدى معهد التربية الفنية بالرياض مدة قصيرة، لينتقل الى جدة مدرِّسًا في إحدى المدارس الثانوية.


الفنون الجميلة
أدرك المسؤولون في وزارة المعارف حينها موهبة الرضوي مما جعلتهم يولونه الثقة في تولى إدارة مركز الفنون الجميلة في جدة منذ تأسيسه حتى إلغائه في الفترة التي بين عامي 1968م ـ 1974م ليكون عنصر جذب لهواة تلك الفنون، ومركزًا لصقل تلك المواهب في سبيل تأهيل جيل جديد من الفنانين الذين كانت لهم بصمتهم الواضحة في تاريخ الفن التشكيلي في المملكة العربية السعودية، يُذكر منهم أحمد فلمبان وضياء عزيز ضياء وطه صبان وحسن مليح وغيرهم.
وما زالت نفسه المتوثبة المتَّقِدة تراوده للمزيد من التحصيل الأكاديمي وبالفعل تمكن من الحصول على درجة الدكتوراه في الفنون من أكاديمية سان فيرناندو الشهيرة في العاصمة الإسبانية مدريد عام 1979م، وعنوان الرسالة (دور الفن العربي وأثره على الفنون الغربية من خلال الحضارة العربية في إسبانيا)، ومنذ ذلك الحين صار لقبه الذي يعرف به هو (البروفيسور)، ليواصل بعدها دوره الذي رأته بصيرته وهو العمل على الرفع من شأن الفنون في المجتمع عبر توليه إدارة الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون فرع جدة بين عامي 1980م ـ 1991م، بالإضافة إلى احترافه في الفن التشكيلي، ومساهمته الفاعلة في تجميل مدينة جدة بمجسمات فنية في ميادينها الرئيسية، حيث استطاع (البروفيسور) أن ينفذ (20) عملًا فنيًّا ساهمت في جعل مدينة جدة معرضًا فنيَّا مفتوحًا في الهواء الطلق.
وأقام الرضوي اكثر من مائة معرض شخصي أقامها في المملكة وحول العالم في عواصم من أبرزها روما وبيروت ومدريد والقاهرة وتونس وغيرها، فكان محطًا للتكريم من أكثر من مؤسسة، واقتنت أعماله عدة جهات رسمية داخل المملكة وخارجها.
وتميزت أعماله الفنية التي بلغت حوالي (3300) بتنوعها بين الجداريات والكولاج والنحت والرسم، التي اتخذ الزخارف المحلية، والتراث، والرقصات الشعبية، والتراث العمراني موضوعات لها.
كما دخل (البروفيسور) مجال التأليف فأصدر كتابه (الحياة بين الفكر والخيال)، وشارك في كتاب (قضايا معاصرة في الفن التشكيلي والفكر الاجتماعي والنفسي).


أوسمة عالمية
حصل في عام 1984م على وسام (الفارس) من رئيس بلدية ريودي جانيرو في البرازيل، كما منحته أكاديمية بون تازين الدولية في نابولي في إيطاليا عام 1996م وسام العلوم والفنون والآداب، وحصل أيضًا على درع لبنان في معرضه الشخصي (90) في بيروت عام 1998م.
وعمل عبدالحليم عبدالرحيم رضوى مستشارًا لدى جمعية الثقافة والفنون بجدة، حتى وفاته -رحمه الله- عام 2006م، في مدينة جدة.